فصل: تفسير الآيات (138- 140):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (138- 140):

{وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)}.
التفسير:
ومن مفتريات هؤلاء المشركين صنيعهم بما في أيديهم من أنعام وزروع.. فقد جعلوا فيها نصيبا للّه، ونصيبا لشركائهم.. دون أن يؤدوا للّه ما جعلوه فيها، بل قالوا ذلك قولا وجحدوه فعلا.. ثم إنهم من جهة أخرى قد جعلوا لهذه الأنعام وتلك الزروع مراسم معيّنة، ومعالم خاصة، اخترعوها لها من عند أنفسهم.. فهناك أنعام وزروع جعلوها حجرا أي محجورة لا يباح طعامها لكلّ طاعم، فمن شاءوا أطعموا منها، ومن شاءوا حرّموها عليه.
وهناك أنعام حرّموا ظهورها، وحموها من أن تركب أو يحمل عليها، إذا جاءت على صفات خاصة عندهم، كما أشار اللّه سبحانه وتعالى إلى ذلك في قوله تعالى: {ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ} [106: المائدة] وقد شرحنا ذلك من قبل عند شرح هذه الآية.
وهناك أنعام يذبحونها على مذابح أصنامهم.. لا يذكرون اسم اللّه عليها.. وكلّ هذا افتراء على اللّه، واللّه سبحانه سيجزيهم بهذا الافتراء الذي افتروه، نكالا وعذابا أليما.
ومن مفتريات هؤلاء المفترين، وضلالات أولئك الضالّين، هذا الذي أخذوا به أنفسهم، فيما في بطون أنعامهم من أجنّة يجدونها عند ذبحها.
فكانوا إذا خرج الجنين حيّا جعلوا لحمه طعاما للذكور منهم دون زوجاتهم، وإن خرج الجنين ميتا أباحوا أكله لذكورهم ونسائهم جميعا. {وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ}.
ولا معقول لهذه التفرقة، ولا منطق لها، فيما بين الجنين الذي يخرج من بطن أمه حيّا، وهذا الذي يخرج ميتا، ماداموا قد استباحوا أكلهما جميعا، اللّهم إلا أن يكون ذلك عن وهم تسلط على عقولهم، فأراهم في هذا الحىّ غير هذا الذي في الميت.
وقل في واردات هذا الوهم ما تشاء.
فقد يكون ذلك عن شعور بأن الجنين الذي خرج حيّا يحمل معه روحا تتسلّط على المرأة المتزوجة، فتفسد حملها، أو تختلط به فيجيء الولد منها على صورة غير صورة الإنسان السوىّ.. أو نحو هذا.
وذلك كله ضلال في ضلال.
وقوله سبحانه: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} أي أنه سبحانه وتعالى سيحاسبهم على هذا الوصف الباطل الذي يلحقونه بتلك الأشياء التي يقولون في حلّها وحرمتها ما تمليه عليهم أهواؤهم، دون أن يكون ذلك مستندا إلى دين أو معتمدا على عقل.. واللّه سبحانه وتعالى {حكيم} لا يدخل في شريعته مثل هذا الضلال {عليم} بما يعمل الظالمون، المفترون، الضالون.
وفى عرض أباطيل هؤلاء الضالين ومفترياتهم بلفظ: {قالوا}.
و{قالوا} مع أنهم فعلوا هذه الأشياء فعلا، إشارة إلى أن هذه الأفعال هي وليدة أقوال تقال، وهى أوهام وظنون، لا تلبث حتى تستولى على عقول سامعيها فتتشكل منها أفعال، ويقوم عليها سلوك.. وهذا ما يشير أيضا إلى ما للكلمة من أثر في تقويم سلوك المرء أو اعوجاجه.. فالكلمة ليست مجرد صوت يطرق السمع، ثم يذهب أدراج الرياح، وإنما هى- في حقيقتها- رسول هدى، وداعية خير، أو هي قذيفة مدمرة، وجرثومة مهلكة.
وقوله سبحانه: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} هو تعقيب على تلك الشناعات التي تلبس المشركين، وتستولى على وجودهم، وهو حكم بالخسران واقع عليهم من اللّه سبحانه جزاء لما اقترفوا من سيئات، وما ارتكبوا من آثام.. ومن أبرز هذه الآثام وأشنعها قتلهم أولادهم {سفها بغير علم} أي عن ضلال، وسفه، وجهالة، ولهذا قدّم قتل الأولاد على كل جناية غيرها.
وقوله تعالى: {وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ} معطوف على قوله تعالى: {قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي أن هذا الخسران الذي حكم اللّه به عليهم، هو لجنايتهم الغليظة في قتل أبنائهم، ثم لتحريم ما حرموا مما رزقهم اللّه من أنعام وحرث، افتراء على اللّه، وادعاء عليه بأن هذا مما شرعه اللّه لهم، وهو مما وكّدته خيالاتهم المريضة، ومدركاتهم السقيمة.. تماما كما قتلوا أولادهم سفها بغير علم.
وقوله تعالى: {قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} هو حكم عليهم بالضلال والسفه بعد الحكم عليهم بالخسران والضياع. فإن كان لهم إلى أنفسهم حاجة، فيبادروا إلى استنفاذها من هذا الضلال، وإقامتها على طريق الحق والعدل والإحسان.

.تفسير الآيات (141- 144):

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)}.
التفسير:
فى هذه الآيات، يعرض اللّه سبحانه وتعالى مشاهد من آيات قدرته، وروائع علمه وحكمته فيما أبدع وصوّر في هذا الوجود، من نعم سابغة وعطايا جزيلة، كان لكثير من الناس مكر فيها، وكفر بها.. وهى التي كان من شأنها أن تقابل منهم بالولاء للّه، والتمجيد له، والتسبيح بحمده.
فهذه الجنات المعروشات، أي القائمة على عروش: وهى العنب الذي يفترش سقوفا تتدلّى منها ثماره المهدّلة، وهذه الجنّات غير المعروشات التي تظلل الأرض بأغصانها، وأوراقها وثمارها، وهذه النخيل السابحة في أعنان السماء، تحمل على رءوسها ثمرا مختلف الألوان، متشاكل الطعوم، وهذه الزروع التي تفترش الأرض، وتكسو أديمها ببساط سندسى يحمل على ظهره الحبّ والثمر، وهذه الأشجار من الزيتون والرّمان، في صوره المختلفة، وأشكاله المتعددة- كل هذا الذي يملأ الأرض من حياة، وجمال، ومن خير عميم ورزق كريم، هو من صنع الخالق العظيم، ومن فيض كرمه وإحسانه.. وهو مائدة ممدودة لعباده جميعا.. وربّ المائدة يضيفهم إليه، ويدعوهم إلى مدّ أيديهم إلى هذا الرزق الكريم.. {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.
وفى قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ} تذكير للناس بهذه النعم التي أفاضها اللّه عليهم، وإلفات للغافلين منهم إلى ما للّه سبحانه وتعالى عليهم من فضل وإحسان، وإلا فإن الناس في غير حاجة إلى دعوة للأخذ من هذا الثمر والأكل منه.. ولكن في دعوة اللّه سبحانه وتعالى تذكير لهم بأنهم في ضيافة صاحب هذا الثمر، وأنهم لن يأكلوا منه إلا بعد أن يأذن لهم، إذن تكريم وتفضّل وإحسان.
وفى القيد الوارد على الأكل من الثمر بقوله تعالى: {إِذا أَثْمَرَ} تقييد للأنظار بهذه الجنات وتلك الزروع، وملاحظة أطوار الحياة التي تتنقل فيها، وأنها لم تصل إلى هذا الطور الذي تحمل فيه الثمر الذي يصلح للأكل إلا بعد أن قطعت طريقا طويلا، في نموّها وتطورها، شأنها شأن الإنسان يكون بذرة في بطن أمه، ثم ينشق عنه الرحم وليدا، فطفلا، فغلاما، فصبيّا، فشابا، فكهلا، فشيخا.
وبهذه الملاحظة لتلك الجنات وهذه الزروع تتجلى قدرة اللّه، وتتكشف آيات إبداعه وخلقه، فيكون من ذلك كله عبرة لأولى الألباب، وتبصرة وذكرى لقوم يؤمنون.
وقوله سبحانه {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ} أمر بأداء الحق المفروض على هذه النعم التي يعيش فيها أهلها.. وحق هذه النعم هو شكر اللّه عليها، إذ هو المنعم بها، ومن شكر اللّه عليها، مشاركة الفقراء والمحتاجين لهم فيها، وإعطاؤهم ما أوجب اللّه على الأغنياء للفقراء في أموالهم في قوله تعالى {وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [24- 25: المعارج] وفى إضافة الحقّ إلى اللّه سبحانه وتعالى هكذا: {حقّه} إشعار بأن هذا الحق هو للّه، صاحب هذه النعم، وأنه سبحانه قد جعل هذا الحقّ الذي له، لهؤلاء الفقراء من عباده.
وإذن فليس لأحد من الأغنياء منّة على هؤلاء الفقراء، ولا فضل له عليهم، إذا هو أعطاهم مما للّه عنده.. فذلك من حقّ اللّه عليه، واللّه سبحانه وتعالى يجزيه عما أعطى، فضلا منه سبحانه وكرما.. لأنه تعالى يأخذ مما له، ويجزى الثواب الجزيل عليه، أضعافا مضاعفة.. فسبحانه سبحانه، ما أعظم فضله، وما أوسع رحمته، وأكثر مننه على عباده.
وفى قوله سبحانه: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} ذهب أكثر المفسّرين إلى أنّ النهى هنا وارد على إتيان حق اللّه في هذا الثمر، وجعلوا الحقّ مضافا إلى الزرع على معنى: وآتوا حقّ الثمر يوم حصاده بالصدقة على الفقراء في قصد دون إسراف.
وهذا- في رأينا- مردود من وجوه:
فأولا: إضافة الحق إلى اللّه سبحانه وتعالى أولى من إضافته إلى الثمر، لأنه بالنسبة إلى اللّه حق أصيل، وهو بالنسبة للثمر حق تبعىّ، بعد تعلق حق اللّه به.
وثانيا: أنه ليس من طبيعة الناس الإسراف في الإحسان، وإنما الغالب عليهم هو البخل والشحّ في هذا الباب، ولهذا كانت دعوة اللّه إليهم دائما متجهة إلى التحريض على الإنفاق، والإغراء به، بما وعد اللّه المحسنين من الخير العظيم على إحسانهم في الدنيا، بنماء أموالهم، وفى الآخرة، بحسن المثوبة وعظيم الجزاء. مثل قوله تعالى {فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى} [5- 10 الليل].
وقوله سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} [261: البقرة].
فالشحّ هو الغالب على الناس، وليس السّخاء، ولا الإسراف في هذا المقام، مقام التصدّق على الفقراء.
وعلى هذا، فإنه من غير المتفق مع دعوة القرآن، أن تحمل آياته دعوة إلى التحذير من الإسراف في البذل والعطاء، للفقراء والمساكين.
وثالثا: إذا كان في المؤمنين من يبالغ في الإحسان، ويسرف في البذل، فإن ذلك زيادة في الخير، ومبالغة في الإحسان، فلا تجيء دعوة سماوية بالتحذير للمؤمن أن يعلى مقامه عند اللّه بالمبالغة في الإحسان، وبذل العطاء للفقراء والمحتاجين.
ورابعا: إذا فرض أن الإسراف مكروه حتى في باب الإحسان، فإن المسرفين هنا قلّة قليلة جدا، لا يحمل التحذير لها بهذه الصيغة العامّة المطلقة، التي تنسحب آثارها على المسرفين، والمعتدلين، بل وعلى الأشحّاء جميعا.
حيث يجد الشحيح مدخلا إلى المبالغة في شحّه، حين يسمع دعوة تقول:
{وَلا تُسْرِفُوا}.
وخامسا: إذا كان من الحكمة التحذير من الإسراف في جميع الأحوال، فإنه مما يجانب الحكمة في تلك الحال التي يطعم فيها الطاعمون من هذا الثمر الذي ملأ اللّه أيديهم منه- أن يدعوا إلى ترك الإسراف هنا- الذي يحمل في مضامينه دعوة إلى الإمساك- وهم يطعمون، ويتخيّرون ألوانا مما يطعمون، وعيون الفقراء ترقبهم، ببطون خاوية، ولعاب يسيل!! وعلى هذا فإن الفهم الذي نستريح إليه لقوله تعالى: {وَلا تُسْرِفُوا} هو أنه قيد وارد على قوله سبحانه: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ}.
أي كلوا من ثمره في غير إسراف، حتى يكون في أيديكم فضلة تؤدون فيها حق اللّه في هذا الثمر الذي تطعمون منه، وحتى لا تمتلئ البطون، وتبلغ حدّ التخمة، فلا يذكر المرء حينئذ شهوة جائع إلى هذا الثمر.
أما قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ} فهو معطوف على قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ}.
معترضا بين صاحب الحال وهو الفاعل في الفعل {كلوا} وبين جملة الحال وهى قوله تعالى: {وَلا تُسْرِفُوا}.
ويكون المعنى: كلوا من ثمر هذه الجنات وتلك الزروع عند ما ينضج ثمرها، وآتوا حق اللّه في هذا الثمر الذين تأكلون منه، غير مسرفين في الأكل.
والسرّ في اقتران الأمر بالأكل من الثمر والأمر بإتيان حق اللّه منه، ذلك الاقتران الذي يفصل بين صاحب الحال والحال.. السرّ في هذا هو- واللّه أعلم- تذكير بحق اللّه، وشغل النفس به، وهى تتذوق بواكير ثمر هذه الجنات وتلك الزروع، وذلك قبل أن تشبع وتتخم.. وهذا من شأنه أن يقيم في كيان الإنسان عزيمة صادقة موثّقة على الوفاء به عند حصاد هذا الثمر، في حين أن ذلك يدعو أيضا إلى المبادرة بإعطاء شيء من حق اللّه فيه قبل الحصاد، ومشاركة الفقراء، للآكلين من بواكيره، حتى لا يطول بهم الحرمان والانتظار إلى يوم الحصاد.. {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ}.
فإذا جاء الحال بعد ذلك مقيّدا للأكل، وناهيا عن الإسراف فيه جاء هذا شاملا لجميع الأحوال التي يؤكل فيها هذا الثمر- في حال نضجه، وصلاحيته للأكل وفى حال حصاده وجمعه، وما بعد حصاده وجمعه.
{وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} في أي حال من الأحوال.
وقوله تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً} معطوف على قوله سبحانه: {جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ} أي أنه سبحانه أنشأ كذلك حمولة وفرشا من الأنعام، كما أنشأ جنات معروشات وغير معروشات من الزروع.
والمراد بالإنشاء هنا تيسير هذه النعم وتذليلها للإنسان، وهدايته إلى تسخيرها والانتفاع بها على هذه الوجوه.. فتلك نعم أخرى إلى نعمة إيجادها.. فاللّه سبحانه وتعالى، هو الذي أوجدها، ثم هو سبحانه الذي مكّن للإنسان من أن ينتفع بها، بما منحه من قوى عاقلة، تقدّر وتدبر، وتعرف كيف تسوس هذه النعم، وتستخرج بعض ما ضمت عليه من خير.
والحمولة من الأنعام: ما يحمل عليه من إبل، وخيل، وحمير.
والفرش: ما يتخذ من هذه الأنعام من جلد وصوف، ليفترش.
وقوله تعالى: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} أي كلوا مما رزقكم اللّه من هذه الأنعام التي تتخذون منها حمولة وفرشا، {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ} فيما يملى عليكم من أباطيل تحرّمون بها ما أحلّ اللّه لكم {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} يحرّم عليكم نعم اللّه، ويقيم بينكم وبينها حواجز باطلة، تفسد عليكم هذه النعم، فلا ترون فيها كمال النعمة، وسعة الإحسان.
وقوله سبحانه: {ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ} بدل من {حمولة وفرشا} أي وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً.. ثمانية أزواج.
أو هو مفعول به لقوله تعالى: {كُلُوا} أي كلوا من هذا الذي رزقكم اللّه من الأنعام ثمانية أزواج، وقوله سبحانه: {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} هو بيان لهذه الأنعام التي سخّرها اللّه للناس، وأباح لهم أكلها، وما كان للمشركين من ادعاءات وافتراءات على اللّه فيها.
فهذه الأنعام التي أحلّ اللّه أكلها، هي ثمانية أزواج، أي ثمانية متزاوجة، أي هي أزواج.. ذكر وأنثى.. من الضأن اثنين: ذكر وأنثى، ومن المعز اثنين: ذكر وأنثى، ومن الإبل اثنين: ذكر وأنثى، ومن البقر اثنين: ذكر وأنثى.. فهى أربعة ذكور، وأربع إناث.. الضأن، والمعز، والإبل، والبقر.
وما يندرج معها من فصائلها.. وهى التي أحل أكلها دون غيرها من الأنعام.
وفى قوله تعالى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ} إنكار على المشركين هذا الذي شرعوه من حلّ بعضها وحرمة بعضها، كما ذكر اللّه سبحانه وتعالى عنهم ذلك في قوله سبحانه: {وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ}.
وقوله سبحانه: {وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا}.
فهذا هو حكم اللّه فيها.. الإباحة المطلقة. فمن أين جاءهم هذا القول الذي يقولونه فيها؟
{نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.
وإنه لا علم عندهم، ولكنها أوهام وأباطيل.
وقوله سبحانه: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا} هو إنكار بعد إنكار.. فبعد أن أنكر اللّه عليهم أنهم ليس معهم علم من كتاب سماوى بهذا الذي يقولونه، أنكر عليهم أنهم كانوا ممن تلقوا هذا العلم من اللّه أو كانوا شهودا وحضورا عند تلقّيه! وإذن فلا حجة معهم على هذه المفتريات التي يفترونها على اللّه.. وإذن فهم مبطلون فيما يقولون في هذه الأنعام، وهم بهذا الباطل ظالمون معتدون، يضلون أنفسهم، ويضلون غيرهم.. وإذن فليحملوا أوزارهم وأوزارا مع أوزارهم. {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.